اقر المشكرين بتوحيد
الربوبية .
اقر المشكرين بتوحيد الربوبية، فهم يؤمنون بأن هناك رب خالق، يقول تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
فسَّر ابن كثير الآية القرآنية قائلًا : ( يقول الله تعالى مقررًا أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم، فَفاوت بينهم، فمنهم الغني ومنهم الفقير، وهو العليم بما يصلح كلاً منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء، المتفرد بتدبيرها).
يستطرد ابن كثير قائلًا: (فإذا كان الأمر كذلك، فلم يُعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراض بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك).
وعلى ذلك فلم يكن إيمانهم كاملًا، حيث أنهم كانوا يشكون في قدرته سبحانه وتعالى، فأنكروا البعث، وغيره من الأمور الغيبية، وفعلوا الكثير من المنكرات، ولم ينفعهم توحيدهم.[1]
معنى توحيد الربوبية الذي اقر المشركين به
إفراد الله بأفعاله .
يعني توحيد الربوبية إفراد الله بأفعاله، أي الاعتقاد بأنه الخالق، المدبِّر، الرازق، السيد، الملك، إلى آخره من الصفات، والأسماء التي ينفرد بها سبحانه وتعالى، ولا تجوز لأحدٍ من خلقه، وكلمة الربوبية مأخوذة من اسم (الرب)، ومعناها في كلام العرب: المالك، والسيد المطاع، والمصلِح، وهي من صفاته سبحانه وتعالى.
ومن أفعاله سبحانه وتعالى التي لا تعد ولا تحصى: (الخلق، والسيادة، والرزق، والإنعام، والتصوير، والمنع، والعطاء، والنفع، والضر، والإماتة، والإحياء، والتدبير،والقضاء، والقدر)، وليس لله شريك في أفعاله وصفاته، وعلى العبد أن يؤمن بذلك بلا ريبة أو شك.
الأدلة على توحيد المشركين
هناك العديد من الأدلة المأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تثبت توحيد الذي أقره المشركين، وتوضِّحه، حيث يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)، كانوا يعلمون أنه الله هو الخالق الرازق، ولكنهم مازالوا يُشركون به مالا ينفعهم ولا يضرهم.
كما أن هناك العديد من الآيات التي تصف الله بصفات الرب، أو بمعنى الرب، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، ويقول : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، ويقول صلَّ الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: (السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)، وقد جاءت الأدلة السابقة على وصفه سبحانه وتعالى بصفات الرب، وبمعنى اسم الرب، حيث وُصف بكونه المالك، والخالق، والسيد.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلَّ الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُف)، فقد كان يُعلمه توحيد الربوبية.
يعد كل ما قاله رسول الله صلَّ الله عليه وسلم في نصحه لابن عباس من شروط توحيد الربوبية، وعلى الرغم من إيمان المشركين به إلا أنهم أخلوا بإيمانهم وإقرارهم، واعتقدوا أنه هناك من دونه سبحانه وتعلى من يضرهم وينفعهم.[2]
هل توحيد الربوبية يُدخِل الإسلام
لا .
لا يكفي الاعتقاد بأن لا خالق ولا رازق، ولا مالك، ولا مميت، ولا محيي غير الله تعالى، فهو معتقد صحيح، ولكنه غير كافٍ لدخول المرء إلى الإسلام، فإن المشركين أقروا بتوحيد الربوبية، وأفردوه سبحانه وتعالى بالاعتقاد في ربوبيته، وسيادته، ولكنهم ظلوا كفارًا، هل تعلم لماذا؟
لأنهم على الرغم من توحيد رب واحد، لم يعتقدوا في أنه إله واحد، كانوا يعتقدون أنه رب واحد، وآلهةً متعددة، ولا يصح إسلام المرءِ دون أن يصاحب توحيد الألوهية توحيد الربوبية، من حيث الاعتقاد والعبادة.
يقول تعالى مخاطبًا المشركين : (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً)، فكيف لهم أن يعتقدوا أنه سبحانه الخالق، ثم يعبدون من دونه آلة مفتقرة لغيرها، لا تملك لأنفسها شيئًا!
يستوجب توحيد الربوبية توحيد الألوهية، ويتضمَّن توحيد الألوهية توحيد الربوبية، لأن من أفرد الله عز وجل بالعبادة، يعني أنه يقر بأنه الخالق، الملك المدبر، فلولا أنه مقرًا بربوبيته لما أفرده بالعبادة، ومن هنا نخلص إلى أن ما اقر المشركين به، رغم توحيدهم الله ربًا، لم يكن ذات معنى، فهو اعتقاد ناقص لا يُغني ولا يُسمن من جوع، وضلك لأنهم لم يعتقدوا بأن الله إله واحد، ولم يفردوه سبحانه وتعالى بالعبادة.[3]
مقتضيات التوحيد الذي اقر المشركين به
- الاعتقاد أن الله هو المتفرد بأفعاله.
- إثبات مباينة الرب للعالم.
- أن يقترن الإقرار بالربوبية بالإقرار بالألوهية.
يقتضي توحيد الربوبية بعض الأمور التي لابد منها، ألا وهي:
الاعتقاد أن الله هو المتفرد بأفعاله: أي أنه سبحانه وتعالي النافع، الضار، المانع، المعطي، المحيي، المميت، المدبر للكون بأكمله بما عليه، ولا يشاركه في أفعاله أحد، والإيمان بالقضاء والقدر، قال اللهُ تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، وقال اللهُ سُبحانَه وتعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
إثبات مباينة الرب للعالم: الرب الذي لا يباين العالم ليس ربًا، فالله مباينًا للعالم بالصفات والأفعال، يقول تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، ويقول عز وجل في كتابه: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ الرُّبوبيَّةَ المحضةَ تَقتَضي مُبايَنةَ الرَّبِّ للعالَمِ بالذَّاتِ، كما بايَنَهم بالرُّبوبيَّةِ وبالصِّفاتِ والأفعالِ، فمَن لم يُثبِتْ ربًّا مُبايِنًا للعالَمِ فما أثبتَ ربًّا).
أن يقترن الإقرار بالربوبية بالإقرار بالألوهية: يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، لابد أن تقترن العبادة المتفردة لله باعتقاد ربوبيته سبحانه وتعالى، فلا فائدة من الإقرار بالربوبية مع صرف العبادة لغير الله تعالى.[4]