الدعـــاء من الكتــــ
ـــاب و الســــنـــة
الدعاء العشرون
كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ "
البخاري ومسلم
المفردات:
الفتنة : الامتحان والاختبار
المسيح الدجَّال أي كثير الكذب والتلبيس, وهو من الدجل، وسُمِّي بذلك لأنه يُغطِّي الحق بباطله، ((والمسيح)) هو الممسوحة إحدى عينيه، فهو أعور
الدنس : الوسخ
المأثم : هو الوقوع في الإثم
المغرم : هو الغُرم و هو الدَّين
باعد صيغة مفاعلة للمبالغة، أي المبالغة في طلب السلامة من الذنوب
الشرح:
هذه الاستعاذات التي كان يستعيذ بها النبي صلى الله عليه وسلم هي من أهم الاستعاذات، وفيها الاستعاذة من أخطر الشرور والأمور في الدين والدنيا والآخرة؛ لهذا كان يستعيذ بها *في كل صلاة بعد التشهد*، وكان يأمر بها، كما جاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ))
مسلم
"كما يعلم
هم السورة من القرآن "دلالة ظاهرة على أهمية هذه الاستعاذات، وأنه ينبغي الاعتناء بها، والعناية الكبرى في الإكثار، والعمل بما دلت عليه..
((اللَّهم إني أعوذ بك من فتنة النار))
أي الفتنة التي تؤدي إلى دخول النار
((وعذاب النار)) أي بالإحراق بعد فتنتها
((وفتنة القبر)) وهو سؤال الملكين في القبر، وجاء في تسميتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر ونكير ، وهي فتنة عظيمة، لا يثبت عندها إلا المؤمن، قال تعالى:
﴿يُثَبِّتُ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[ابراهيم : 27]
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر( البخاري)
((وعذاب القبر))
عطف العام على الخاص, فعذابه ينشأ منه فتنة بأن يتحير في الجواب، فيعذب لذلك، كما في الكافر، والمنافق، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وقد يكون لغيرها، كأن يجيب بالحق، ولا يتحيّر، ثم يعذّب على تفريطه في بعض المأمورات أو المنهيات، كإهمال التنزه من البول، والنميمة، والنوم عن الصلاة المكتوبة، وغير ذلك، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
((وشرِّ فتنة الغنى))
قيَّد الاستعاذة بالشرّ؛ لأن فيه خير باعتبار، وشر باعتبار آخر، فالاستعاذة من شره يخرج ما فيه من الخير، وشر الغنى: مثل البطر، والطغيان، والتفاخر، والاستعلاء، وإزدراء الفقراء، وصرف المال في المحرمات، والشحّ بما يجب إخراجه من واجبات المال ومندوباته، أو الإسراف، والانخراط في الشهوات.
((وشر فتنة الفقر))
أيضاً قيّده بالشر كسابقه، ففيه خير وشر، وشره ما ينشأ: عنه من حسد الأغنياء، والطمع في مالهم، والتذلّل لهم بما ينقص الدين، ويوجب عدم الرضا بما قسم والسخط، والقنوط لمن لا صبر له
تكملة الشرح
((اللَّهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال))
استعاذ منه لأنه هو أعظم الفتن الكائنة في الدنيا؛ ولهذا ما من نبي بعثه اللَّه إلا حذّر منه قومه، وأنذر، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً في الناس، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: ((إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ والنبيُّون من بعده، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ، أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ))
البخاري ومسلم
فمن صفاته الخَلْقية أنه أعور العين اليمنى .
ومن صفاته الخُلقية أنه خداع، ويُلبس الأمور على الناس بالكذب، فهو منبع من منابع الكفر، ومصدر من مصادر الفتن الكبرى لما يظهر على يده من الأمور الخارقة من ادعاء الألوهية، فهو يضلّ ضعيف الإيمان, وهو من أشراط الساعة الكبرى
((اللَّهمّ اغسل قلبي بماء الثلج والبرد))
وفي رواية لمسلم (( اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ))
جمع بينهما (الثلج والبرد ) مبالغة في التطهير، أي طهِّرْني من خطاياي بأنواع مغفرتك، وخصَّها لأن بردها أسرع لإطفاء حرِّ عذاب النار التي هي غاية الحرِّ، وجعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها سببها، فعبّر عن إطفاء حرّها بذلك، وذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، تبياناً لأنواع المغفرة التي لا يخلص من الذنوب إلا بها.
((ونقِّ قلبي))
أي نظِّف قلبي من الذنوب، كما يُنظّف الثوب الأبيض من الوسخ؛ لأن زوال الوسخ في الثوب الأبيض أظهر بخلاف سائر الألوان، والقصد من هذا التشبيه أن ينظّف قلبه من كلّ الذنوب كنظافة الثوب الأبيض المنظَّف من الوسخ، فلا يبقى فيه أثر، ولا يخفي في بداية الدعاء بسؤال اللَّه تعالى أن يغسل قلبه، ثمّ كرّر بسؤال تنقية القلب أهمية هذه المضغة، فإنها موقع نظر الرب جلّ وعلا، وبصلاحها صلاح الجسد كله، وبفسادها فساد للبدن كله.
((وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب))
أي باعد بيني وبين خطاياي من محو ما حصل من الخطايا السابقة، وترك المؤاخذة عليها، والوقاية والعصمة من الوقوع فيها مستقبلاً، وعبّر بصيغة المفاعلة (باعد) مبالغة في البعد بينه وبين خطاياه، وشبّه ذلك ببعد المشرق والمغرب، أو لأن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنَّه أراد ألا يبقى لها منه اقتراب بالكلية
((اللَّهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم))
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الاستعاذة من الإثم والمعاصي والذنوب، وما يوجبها من الأقوال والأفعال والأخلاق
فعن عروة أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ))، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ))
البخاري
وكذلك كان يكثر صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الدين، وهو إما الاستدانة فيما يكرهه اللَّه، أو فيما يجوز، ثم عجز عن أدائه، أما الدَّيْن الذي احتاج إليه وهو قادر على أدائه، فلا يستعاذ منه، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن من استدان وأراد أن يردّ ولم يستطع كان معه العون من اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم (إن اللَّه مع المدين حتى يقضى دينه))
الألباني
هذا ما لم يكن فيما يكرهه اللَّه .
ويستفاد من هذا الحديث سدّ الذرائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الدين؛ لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث، والخلف في الوعد ، والانشغال عن الواجبات الشرعية، والأعمال الصالحة .
فينبغي للعبد الاحتياط لهذا الأمر، وأن لا يتساهل فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على صاحب الدين، حتى تكفل أبو قتادة بالسداد عنه، فصلَّى عليه، وأخبر أن الشهيد يُغفر له كلُّ ذنب إلا الدين( مسلم)
المرجع
شرح الدعاء من الكتاب والسنة
سعيد بن وهف القحطاني