توقفنا المرّة السابقة في حكاية "الأموي الكبير و الرشيد" بعد أن أخبرنا "منارة" خادم الرشيد أنّ الرجل بعد أن استقبله و قرأ رسالة أمير المؤمنين و أوصى من حوله، أنّه قدّم رجليه و قُيد و حُمل حتى وضع في المحمل و ركب معه منارة و انطلقا... و تابع "منارة" قائلاً:

فلمّا صرنا في ظاهر دمشق ابتدأ "الأموي" يحدثني بانبساط و يقول: هذه الضيعة لي تعمل في كلّ سنة بكذا و كذا، و هذا البستان لي و فيه من غرائب الأشجار و طيب الثمار كذا و كذا، و هذه المزارع يحصل لي منها كلّ سنة كذا و كذا، فقلت: يا هذا، ألست تعلم أنّ أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أنفذني خلفك و هو بالكوفة ينتظرك و أنت ذاهب إليه ما تدري ما تُقدم عليه "العقاب في انتظارك"؟ و قد أخرجتك من منزلك و من بين أهلك و نعمتك وحيداً فريداً و أنت تحدثني حديثاً غير مفيد و لا نافع لك و لا سألتك عنه و كان شغلك بنفسك أولى بك؟ فقال: إنّا لله و إنّا إليه راجعون، لقد أخطأت فراستي فيك يا منارة! ما ظننت أنّك عند الخليفة بهذه المكانة إلا لوفور عقلك فإذا أنت جاهل عامي لا تصلح لمخاطبة الخلفاء.

أمّا خروجي على ما ذكرت "تجنبي الحديث عن العقاب على يد الخليفة" فإني على ثقة من ربي الذي بيده ناصيتي و ناصية أمير المؤمنين، فهو لا يضر و لا ينفع إلا بمشيئة الله تعالى، فإذا كان قد قضى علي بأمر فلا حيلة لي بدفعه، و إن لم يكن قد قدّر علي بشيء فلو اجتمع أمير المؤمنين و سائر من على وجه الأرض على أن يضروني لم يستطيعوا ذلك إلّا بإذن الله تعالى، و ما لي ذنب فأخاف، و إنّما هذا واشٍ وشى "شخص اتهمني كذباً" عند أمير المؤمنين ببهتان، و أمير المؤمنين كامل العقل فإذا اطلع على براءتي فهو لا يستحل مضرّتي و على عهد الله لا كلمتك بعدها إلّا جواباً، ثمّ أعرض عني و أقبل على التلاوة و ما زال كذلك حتى وافينا الكوفة بكرة اليوم الثالث عشر، و إذا حاشية من عند أمير المؤمنين تكشف عن أخبارنا قد استقبلتنا ، فلمّا دخلت على الرشيد قبّلت الأرض فقال: هات يا منارة أخبرني من يوم خروجك عني إلى يوم قدومك علي، فابتدأت أحدثه بأموري كلّها مفصلة و الغضب يظهر في وجهه، فلمّا انتهت إلى جمعه لأولاده و غلمانه و خواصه و ضيق الدار و تفقدي لأصحابي فلم أجد منهم أحداً، اسودّ وجهه، فلمّا ذكرت يمينه عليهم تلك الأيمان المغلظة تهلل وجهه، فلمّا قلت إنّه قدّم رجليه أسفر وجهه، و استبشر.

و لمّا أخبرته بحديثي معه عن ضياعه و بساتينه و ما قلت له و ما قال لي، قال الرشيد: هذا رجل محسود على نعمته و مكذوب عليه، و قد أزعجناه و أرعبناه و شوشنا عليه و على أولاده و أهله، اخرج إليه و فكه و أدخله عليّ مكرماً، ففعلت، فلمّا دخل قبّل الأرض، فرحب به أمير المؤمنين و أجلسه و اعتذر إليه فتكلم بكلام صحيح، فقال له أمير المؤمنين: سل حوائجك، فقال: سرعة رجوعي إلى بلدي و جمع شملي بأهلي و ولدي. فقال الرشيد: طلبك مجاب. فسل غيره فقال الأموي: عدل أمير المؤمنين في عماله ما أحوجني إلى سؤال، قال: فخلع عليه أمير المؤمنين ثمّ قال: يا منارة اركب الساعة معه حتى ترده إلى المكان الذي أخذته منه "أعده معززاً مكرماً إلى دمشق".

قم في حفظ الله و ودائعه و رعايته و لا تقطع أخبارك عنّا و حوائجك، فانظر حسن توكله على خالقه فإنّه من توكل عليه كفاه و من دعاه لباه و من سأله أعطاه ما تمناه.